الثلاثاء، يونيو ١٦، ٢٠٠٩

من أخبار الغابرين .. لابن كانْزَمَان


أيقن "فَيْشَلَة" المعظم أنه قادر بحق .. فهو الآن ملك البِيد والعبيد بلا منازع .. الكلُّ طوع بنانه: الجن والإنس والشجر والدواب .. لا يجرؤ صعلوك على مخالفة أمره .. يأتيه رزق الناس رغدا من كل مكان : من إتاوات الملوك، وقطع الطريق وثلثي أرزاق أهل الكدية والضرائب وغير ذلك .. فقط قبيلة " بني كنانة" الكبيرة هي التي تنغص عليه حياته تقف له كاللقمة في الزور؛ إذ إن لها جيشا عرمرما، ورجالا أشداء لا يردُّهم رادٌّ متى أُرِيدُوا بسوء .


فكر " فيشلة" مليًّا في حيلة ينفذ بها إلى بني كنانة؛ ليقضي عليهم، وينعم بخيراتهم وظلالهم الوارفة ونسائهم البيض الفاتنات .. هداه تفكيره إلى فكرة إبليسية ما إن التمعت بذهنه حتى صاح صيحة هائلة، فالتف حوله رجاله وخلصاؤه في الحال فاجتمع بهم وقال لهم : لقد تفتق ذهننا عن فكرة عبقرية نبتلع بها بني كنانة .. لقد قررنا الزواج من الأميرة " جميلة" بنت عبد الغني ملك بني كنانة ورتبنا لذلك ترتيبا عظيما . صاح الوزير : نِعم ما هداك إليه فكرك أيها الملك المعظم. ولكن أحد الكبراء الحاضرين اعترض قائلاً: كيف يا مولاي؟ كيف تخمسون وأنتم زوج لأربعة ولا سبيل إلى تطليق إحداهن وإلا ثارت ثائرة القبائل .. ومخالفة الشرع بالتخميس – وإن كانت عندنا أهون وإلينا أحب– فإننا لا نأمن معها الفتنة والخروج . قاطعه الشيخ الطَّاوي بعد أن سوَّى عمامته فقال: ياهذا بأيِّ كتابٍ أم بأية سنة أفتيت (( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون )) ألم يقل الله في كتابه : (( فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع )) وحصيلة الأعداد المذكورة في الآية تسع زوجات، يؤيد ذلك السنة المطهرة فالنبي تزوج بتسع زوجات، ولم يرد في النهي عن التخميس شيء يعتد به، ثم صاح الشيخ قائلاً: سر على بركة الله يامولاي سدد الله خطاك وأيدك بنصره.سُرَّ الملك بالشيخ سرورًا عظيمًا فاحتفى به وأجزل له العطاء وأقطعه ضيعة عظيمة–رغم شحه –وأمر ألا يُفتى والطاوي بالمدينة


قدم فيشلة هداياه الثمينة للملك " عبد الغني" الذي رحب به وشكره على هداياه وأحسن ضيافته ثم أجلسه إلى جواره ليتكالما فأفصح له " فيشلة" عن مراده ورغبته في مصاهرته، وأبدى استعداده لتلبية كل مطالب كريمته جميلة ..فقال له الملك: .. لكن ياعزيزي إن ابنتي قد اشترطت عليَّ ألا يظفر بها إلا أشجع الفرسان ولقد أجبتها إلى ذلك .ثم أردف قائلا: وسوف أعلن بعد أيام الدعوة إلى المبارزة وسيقتصر الأمر على أو ل عشرة فرسان يتقدمون فيتبارزون فيما بينهم ومن يظفر منهم برؤؤس الآخرين يظفر بابنتي وإني لأحسبك فارسا لا يشق له غبار فأبشر..شكره فيشلة على حسن ضيافته وودعه لينصرف برجاله وقال في نفسه: أتظننا لن نظفر منك بطائل أيها الملك اللعين ..!!.

رغم الإرهاق البادي على وجهه وآلام الشيخوخة التي تواطأت عليه الليلة، فقد ظل فيشلة يقطع غرفته جيئة وذهابا لا يقر به قرار ولا يثبت في مكان واحد ..يفكر ويقدر كيف يظفر بتلك الأميرة المدللة؟ .. كيف يبارز الفرسان وقد رق عظمه وتضعضعت أركانه؛ فإن للثمانين أحكامها وأحوالها .. فما الحيلة إذن ..؟ . اجتمع الملك بقائد العسكر وأمره أن يُعِدَّ له تسعة فرسان أشداء من المخلصين الموالين له، وأن يُعِدَّ أكياسا مليئة بسائل الزعفران الأحمر، وسيفا يبدو حدُّه للناظرين مصقولا قاطعا ولكنه لا يقطع ولا يجرح فقط له طرف يثقب الأشياء دون أن يجترحها ..ونفَّذ قائد العسكر الأوامر بحذافيرها – في سرية تامة – وأرسل فيشلة في طلب الحكماء والعشابين والمزينين ليداووا أسقامه ويصلحوا من هندامه ويعيدوا إليه بعضا من صباه ..وأمر فيشلة الفرسان التسعة بسرعة التوجه صباح الميعاد المحدد إلى بني كنانة على أن يتبعوه فرادى ، وأفصح لهم عن خطته المرسومة، وحدد لهم أدوارهم الموسومة .

استقبل الملك "عبد الغني" الفرسان في باحة القصر بحفاوة بالغة وكرم مشهود، وأغلق باب القبول وبدأت المبارزات وسط الحشود الكثيفة والجماهير الصاخبة .. واستطاع "فيشلة" في مهارة وخفة أن يحوز إعجاب الجميع ..بدا اقسى من الصخر، تطوح بسيفه يمينا وشمالاً وراح يحصد خصومه التسعة واحدا تلو الآخر ويضرجهم في دمائهم وكان حراس فيشلة يتكفلون بسحب الجثث بحجة دفنها بعيدًا ...

أعجبت الأميرة " جميلة" بذلك الشيخ الفتيِّ الشجاع الذي تخضبت يداه بدماء أشجع الفرسان، فرضيت به زوجا وعُقِد قرانهما في الحال .. وعلقت الزينات وأقيمت الأفراح، وزفت الأميرة إلى فيشلة الأعظم في الليلة نفسها وفي ثيابه المخضبة بالدماء .. ودخل العروسان السعيدان غرفة الزوجية وبعد قليل أقلقت الأميرة حالة الإعياء الشديد البادية على وجه فيشلة ،وتوجست خيفة من ذلك فتماسك فيشلة وقَبَّلها بصعوبة بالغة ،ولكنه سرعان ماتهاوى بجسده الثقيل على الفراش وظل يتصبب عرقا ويتأوه بشدة من آلام شتى هاجمته دفعة واحدة ؛ حتى إنه جعل أصابعه في أذنيه عساه أن يخفف من حدة أوجاعها.. فاغتمت الأميرة لذلك وأشفقت عليه وأتت بمنديلها الحريري وراحت تغمسه في ماء الورد لتجفف به عرقه وتمسح الدماء العالقة بيديه فدهشت الأميرة عندما لحظت أن لون الدماء لا يزول بالماء وكأنما هو صبغ ثابت .. وبينما هي تعتني به تقيأ بشدة وبلل ملابسه وسرواله وفراشه ، فنزعت على الفور عنه ملابسه كلها؛ فكانت المفاجأة غير المتوقعة التي شهقت لها الأميرة شهقة عظيمة ولطمت خديها إذ رأت أن فيشلة الأعظم كان بلا .... !! من غير بتر أو جَبٍّ فدارت بها الدنيا وكادت تتهاوى فاقدة الوعي لكنها تماسكت وسترت جسده ،ثم صاحت في الخدم ليستقدموا الأطباء والحكماء... ولكن قبل أن يصل هؤلاء كان فيشلة قد أسلم الروح بوجه شنيع بشيع .. وظلت الأميرة تبكي بكاء مريرا متواصلاً على فجيعتها، وتساءلت كثيرا من أين أتى بابنه الذي ينتسب إليه ؟ ذلك الابن الذي يشبه أمه تماما، وتعجب الناس من حبها العظيم لفيشلة وهو لم يقض معها ليلة كاملة ، وتعجبوا لوفائها الفريد الذي لم يشبه تلون حتى صارت أحدوثة ومضربًا للمثل ..


منع فيشلة الصغير " وسيم بن فيشلة المعظم " زوجة أبيه من مغادرة القصر، فقد اعتبرها تراثا ورثه فيما ورث عن أبيه، بل أراد نكاحها والعقد عليها فأبت عليه وقالت: نولك والله ما في السماء السابعة أقرب إليك مما أردت . .ولما ذكَّرته بأنها محرمة عليه؛ لأنها زوجة أبيه .. أرسل في طلب المشايخ وعلى رأسهم الشيخ الطاوي الذي قال لها: يابنيتي إن الله قال: ((ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم)) ومولانا فيشلة المعظم – طيب الله ثراه – لم ينكح ..فقالت : لكنه عقد علي ولمسني وقبلني .. ورأيت منه ما ترى المرأة من زوجها و.. ونظرت إلى فيشلة الصغير وسكتت قبل أن تتم كلمتها.فأجابها قائلاً: لا ضير ..فإن الختانين لم يلتقيا ... وقبل أن يتم الشيخ عبارته تعالت صيحات عارمة خارج القصر، وسُمعت جلبة عظيمة اضطرب لها جميع من بالقصر .. بيد أن رجالا من قوم فيشلة ورجالا من بني كنانة ضاقوا ذرعا بما يجري، وفاض بهم الكيل، فأشعلوا الحرائق ، ولعنوا فيشلة المعظم ونددوا بفيشلة الصغير ، وحاصروا القصر حصارا شديدا وما زال حصارهم مستمرًا ... بتصرف



حاشية :
هذا الجزء منقول عن مخطوطة بالية عثرنا عليها في صندوق قمامة بإحدى دور الكتب القومية بدولة كبيرة رائدة في كل شيء.وذلك في أثناء حملة تنويرية نشطة لإعدام كافة المخطوطات التي أكلتها العتة وعشش فيها البق ولا فائدة في محتواها. وكان عملنا هو محاولة تجميع ما تناثر في الصناديق من قصاصات ومقارنتها وقراءتها ونسخها وتحقيقها وتلفيق مواضع الخرم والتآكل، وهذا ما استطعنا إنقاذه من المخطوطة فليعذرنا القراء إذا غمضت عليهم بعض العبارات أو شعروا بالحذف في مواضع أو بزيادة مدسوسة في أخرى وأما نسبة المخطوطة إلى مؤلفها فمشكوك فيها وترجيح هذه النسبة كان فذلكة منا وفكاكة .