الجمعة، أكتوبر ٣١، ٢٠٠٨

كــحيانيــات ... - 1-





لا أدري ما الذي جعلني أستعيد فجأة شريط ذكرياتي المهترئ، وأستعيد من نسيجه البالي المراحل التعليمية على وجه الخصوص... ربما كان السبب استغراق مدونتي في أمور تخص التعليم والتعتيم ، وربما كان السبب هو اطلاعي على تدوينة الصديق ماهر الشيال الأخيرة ( أزمة التعليم في مصر ) وربما وربما ....

تذكرت أيام الكتَّاب وكرابيج سيدنا السودانية الملهبة، وحبال التعذيب الإنجليزية التي كانت تزدان بها جدران الغرف الواطئة ، كنت اسمي بيته إلى عهد قريب بيت ( ريا وسكينة) وتذكرت منور بيته الواسع الذي كان ممتلئا بالقمامة عن آخره ويرعى فيه المعز والبط والدجاج . وقد كان سيدنا يسمع الماضي للكتاب كله في نفس واحد، حيث يحتشد جميع الصبية أمامه في الساعة العاشرة صغيرهم وكبيرهم، وكان يفترض بي أن أنصرف إلى الداخل بعد أن أصل إلى تسميع آخر سورة حفظتها ولم أكن أعرف ذلك لصغري وحداثة عهدي بالكتاب، فأضطر من أجل متابعة الجموع الواقفة إلى أن أحرك شفتي أفتحهما وأطبقهما كأني أسمِّع مثلهم، فيفطن سيدنا الأريب إلى ذلك رغم بعد المسافة بيني وبينه ورغم كثرة الطلاب، فيلسعني بكرباجه الطويل من بعيد ثم يأتي ليجذبني من قفاي ويلقي بي في ذلك المنور وينهال علي بالكرباج ضربا..!! لم أفلح في الكتَّاب ولم أنتظم فيه فقد خرجت منه بعد أن أتممت حفظ ثلاثة أجزاء فقط.

وانثالت على ذاكرتي مرحلة الابتدائية الجميلة البريئة، وكتبها الملونة المفيدة التي جار عليها الخبراء باسم التطوير والتحديث، وعلبة الألوان الخشبية التي كنت أنساها في البيت فترسل أمي إلي إخوتي رغم هطول المطر الشديد فيأتونني بها وأنا في المدرسة - يبدو أنها كانت تظنني بيكاسو عصره وأوانه - ولا أنسى قبلات مدرساتي الجميلات اللاتي كن يرشقنني بها عندما أجيب عن أسئلتهم - نوع من الحافز والتقدير البرئ - وهذا لأنني كنت أحسن القراءة والكتابة قبل دخولي المدرسة والفضل يعود - رغم ما ذكرت - إلى سيدنا رحمه الله .. ليته كان يتخفف من عنفه . وتلا ذلك المرحلة الإعدادية، واستوقفني حب أستاذي القبطي لي لتفوقي في مادة العلوم، فقد كان يباهي بي زملاءه كثيرا ، ويدعوهم إلى سؤالي ويلح عليهم في اختباري - أنا الآن لا أفرق بين الأحماض والقلويات ولا أتذكر الكثير من الرموز الكيميائية المشهورة -

ثم كان بعد ذلك الثانوية - مرحلة التدهور الكبير - مرحلة المراهقة والمشاغبة وحب الاستطلاع الزائد، كنا نهرب وبعض الأصدقاء لنمضي أوقاتنا على كورنيش النيل ونختلي في الحدائق الصغيرة هناك ونقيم حلقات ساذجة لتحضير العفاريت والجان، من كتب صفراء كان يقتنيها صديق لنا، ونتناقش في بعض ما قرأنا للدكتور مصطفى محمود - خاصة العنكبوت - بانبهار شديد، ونتلذذ بسرد بعض رحلات أنيس منصور اللذيذة، وكنت أهرب كذلك كل أسبوعين من أجل متابعة الأفلام السينمائية الجديدة في السينما الكحيانة عندنا - خاصة أفلام الرعب والأكشن - ومشاغباتي التي كنت أفتعلها مع المدرسين - كانوا يدعونني في المدرسة بالمشاغب المهذب - كنت أفعل بالمدرسين ما أريد دون عنف أو ضرب - كما كان يفعل زملائي البلطجية - أو دون دفعهم إلى طردي، أثير ضحكهم وأضيع الحصة عليهم - هذا كنت أفعله مع المدرسين الضعفاء علميا من الذين يجبرون الطلاب على الدروس الخصوصية ويهددوننا، كنت أفعل ذلك نكاية فيهم لأني لا أستفيد منهم شيئا.... للحديث بقية .

الأحد، أكتوبر ٢٦، ٢٠٠٨

الكحيان والكتاب الجامعي .... على هامش فشكول والجامعة






لقد عصر العم فشكول بقوة موضعا غائرا وجرحا من جراحاتنا المتقيحة التي لا تكف عن النزيف،ألا وهو جرح الكتاب الجامعي، والحق أن هذه المسألة فيها اختلاط شنيع بشيع، يقف وراءه السلبية والعشوائية واختلال المفاهيم والوصولية في كثير من الأحيان. وإن التجاوز فيها ينتسب إلى أطراف عدة، فهذه القضية من وجهة نظري المتهم فيها : الجامعة بسياساتها التخبيطية، والأستاذ الجامعي بسلبيته وانكماشه، والطلاب - ومن خلفهم الآباء - بما تم زرعه فيهم وتعويدهم عليه من أفكار تربوية خاطئة ومبادئ مشوهة ؛ مثل الاعتماد على الدروس الخصوصية واستظهار الأفكار الملخصة والمبرشمة والمفذلكة والمشوهة، التي قتلت فيهم القدرة على التفكير والإبداع وخلقت فيهم الاتكالية وضعف الشخصية وعدم الاعتماد على الذات .

وأحب أن أنبه إلى أن الفساد في هذه القضية وغيرها، لا يقتصر على كلية دون أخرى ، ولا على الكليات النظرية - كما قيل - دون العملية بل الناس في ذلك شركاء، فالأمر موجود ولكن له أشكال متعددة ومتنوعة ومتلونة ربما لا يفطن إليها الكثيرون، فكثيرون ممن يشترون المراجع الأجنبية لا يعلمون أن الطبعات التي في أيديهم ليست طبعات أصلية بمعنى أن من يبيعهم هذه النسخ، يعيد تصوير النسخ الأصلية ويجلدها مع المحافظة على شكل غلافها ويبيعها بـ 50 أو 70 جنيها وهي في الحقيقة لا تكلفه أكثر من 10 جنيهات مع هضمه لحقوق المؤلفين والناشرين الأجانب الذين لا يرونه ولا يسمعون به، وهذه الأموال تذهب إلى جيوب هؤلاء الناشرين- أو المصورين إن أردنا الدقة - ومن يقف وراءهم من الأساتذة. وإن الطلاب الذين ليس لهم خبرة بشؤون النشر والتصوير والسرقة، قد لا يفطنون إلى الفرق بين الأصل والصورة. هل تعلم ياعم فشكول أنني منذ فترة وجيزة كنت في دورة تلزمنا الجامعة العريقة بها تخص تكنولوجيا التدريس، كان يقوم بالتدريس فيها أستاذ جامعي - من كلية عملية - والغريب أن أغلب البرامج الموجودة على حواسب الجامعة مضروبة - أي ليست أصلية - وهذا الأستاذ كان يأخذ على عاتقه طوال فترة التدريس تعليمنا كيفية ضرب البرامج المحمية والحصول على الباسورد واليوزرنيم وما إلى ذلك ، بل الغريب أنه راح يبرر ذلك ويذكر له مستندا شرعيا دينيا بحجة أننا لسنا تجارا نتربح من الأمر وإنما نحن طلاب علم بغيتنا العلم والمعرفة ..هكذا ، ولن أفند هنا رأيه لأنه متهافت جدا يسهل الرد عليه بالأدلة الشرعية وغير الشرعية، وهذا مثال على تداخل الأمور عندنا وبلادة الفكر واختلال المبادئ والاتكالية والاعتباطية والاستباحة واختلاط الحلال بالحرام....!!


وأنا في الحقيقة أنادي منذ فترة بضرورة إلغاء الكتاب الجامعي جملة واحدة، فإن الكتاب من وجهة نظري هو منبع الشرور، وهو من أكبر العوامل التي تسببت في انهيار العملية التعليمية وفشكلتها وتفريغها من معناها ... لماذا ؟ :

1- لأن الكتاب يعود الطالب البلادة والتكاسل، ويجعله يحرم على نفسه دخول المكتبات، فلا يحاول السعي إلى زيادة حصيلته العلمية والمعرفية، وإنما يقنع بالمادة الضئيلة المدونة يستظهرها إلى أن يحين وقت الامتحان فيستفرغ ما حفظ في ورقة الإجابة ثم ينصرف كأن شيئا لم يكن .

2- لأن الكتاب الجامعي يقمع أي فرصة لانتاج مشروع باحث علمي مقتدر يحقق ويدقق ويجادل بطريقة منهجية، مستخدما المناهج المفيدة التي يُفعِّلها من أجل الوصول إلى النتائج السليمة بلا دجل أو شعوذة أو فبركة أو تلفيق، فالكتاب يعود الطالب على الفكر الواحد والاتجاه الواحد ويزرع فيه روح الاتباعية والإمعية وربما الآبائية - من قول الكفار هذا ما وجدنا عليه آباءنا - .

3- وإن الكتاب الجامعي ليسقط هيبة الأستاذ تماما؛ لأن الطلاب يستحقرونه عندما يضغط عليهم من أجل شراء الكتاب، بوسائل متخلفة مضحكة مثل فكرة الشيت، وفكرة تسليم البطاقة الشخصية مع الإمضاء عند الناشر - حدث هذا معنا والله - وربما طلب الأساتذة في السنوات القادمة الفيش والتشبيه ، والـ DNA. !!!


والله لقد جرب معنا أحد الأساتذة الأفاضل فكرة إلغاء الكتاب - وقد اعترض عليه الطلاب وشكوه في أول الأمر - فاستمتعنا بمحاضراته، وكنا أشد تعلقا بالمكتبة نزورها كثيرا على غير المعتاد، وقد حصلنا من المعلومات أضعاف أضعاف ما كنا نتوقعه، وقد كان هو يحدد لنا الأفكارالعامة بدقة في كل محاضرة، ويلخصها لنا في المحاضرة التالية ليذكرنا بما قاله من قبل ثم يرشدنا في كل محاضرة إلى المراجع المهمة المفيدة، وقد كان يراعي في المصادر أن تكون متوافرة بمكتبة الكلية، ولا يلزمنا بحرفية ما يقول، وانتهى العام وقد انحفرت المعلومات في عقولنا، وارتفعت درجاتنا في الامتحان ولا أتذكر أن أحدا قد رسب في هذه المادة، فالأمر كان سهلا ميسورا على عكس ما يتوهم الطلاب وإن كان يحتاج إلى بعض الضوابط والنفوس السوية التي تتقبله، وحتى لا أنسى أقول إن إلغاء الكتاب أدى إلى حرص الطلاب على الانتظام في الحضور وعدم التغيب اتكالا على الكتاب، وأدى إلى عدم تسكعهم في الكافيهات وممرات الجامعة وسراديبها التي يفعلون بها ما لا يليق - في حين يظن أهلهم بهم خيرا - هذا فضلا عن ترددهم على المكتبة وتكرار زيارتها!!!.

لكن الذي يحدث أن الجامعة بسياستها العقيمة قد عودت الطلاب على الكتاب، وهي في بدء العام الدراسي تنبه الأساتذة وتحثهم على سرعة إصدار الكتاب، والناشر من ناحية أخرى يفتك بالأستاذ ويضعه بين أنيابه، فهو يرهبه ويحذره ويلزمه بضرورة تهديد الطلاب لحجز الكتاب حتى لا يضطر أن يدفع هو - أي الأستاذ- ثمن ما تم نشره من جيبه في حال عدم شرائهم الكتاب، كما يفرض الناشر على الأستاذ توقيت توزيع الكتاب وغالبا ما يكون قبل الامتحان بأسبوع أو أسبوعين، ويفرض عليه خامة الورق وكمه وسعره ، والأستاذ يضطر إلى التسليم والخضوع حتى لا يقع تحت مساءلة الجامعة، وحتى لا يفتك به الناشر - الذي يحصل على نصيب الأسد مضاعفا من تلك الكعكة - ومن هنا يضطر الأستاذ إلى الضغط على طلابه وتهديدهم مما يسقط هيبته ويمرغها في التراب ، والذي يدفعه إلى ذلك أن من المعتاد أن نصف الطلاب أو أكثرهم يلجأون إلى تصوير الكتاب ساعة نزوله بسعر أرخص، ومن ثم يلجأ الناشر إلى رفع السعر واختيار الخامات الرديئة ليحقق أكبر مكسب ممكن وليعوض ما فاته . ومع ذلك فأنا لا أسوغ فعل الأستاذ على الإطلاق لأن في إمكانه أن يقهر هذه الظروف بقوة شخصيته وقوة إرادته وتضحيته وتعاونه مع أقرانه الشرفاء، بهذا يمكنه أن يفرض الصحيح والصواب،وأن يقتلع الفساد من جذوره ويحرر الجامعة من ربقة العبيد الذين يحكمونها ويسوسونها ، لكن الجميع يا سيدي يؤثرون السلامة خوفا من ثورة الطلاب وآبائهم - في حال لا قدر الله فشلوا- وخوفا من التقارير إياها التي تخسف بهم الأرض وتحرمهم الترقيات والتعيين في المناصب الإدراية العليا وتحرمهم السفر وما إلى ذلك !!! .