الخميس، نوفمبر ٠٦، ٢٠٠٨

كحيانيات 2 ( كحيان ومازينجر)




مواقف كثيرة أردت أن أتحدث عنها حدثت معي في سنوات الثانوية، لا أدري بأيها أبدأ ، هل أسردها بصورة متتالية، أم أنسقها وأضم النظير إلى نظيره بصرف النظر عن تتابع تواريخ الأحداث ، أم أسردها سردا عشوائيا وأبدأ بذكر أشدها عُلقة بالذهن .... لنبدأ إذن باشدها عُلقة بالذهن، خاصة أنها تتعلق بعَلْقة مميتة - بفتح العين - كان يدرسنا الرياضيات مدرس من أراذل الناس طويل القامة جدا ضخم الجثة جدا جدا، وقد كان الطلاب يلقبونه بلقب كان ذائعا وقتها وهو (( مازينجر)) وكان مازينجر لا يكف عن استخدام أقدامه وأكفه الغليظة، ولسانه المر، وجلدة لاسعة اجتلبها من بعض الميكانيكية. في أول يوم من العام نلقاه فيه رهبنا وخوفنا من الثانوية العامة، وقال داخلها مفقود والخارج منها مولود، ووضع لنا امتحانا عسيرا في أول يوم يختبرنا فيه في أي شيء لا أدري ؟ ولا تحسبوا أن ذلك كان مراجعة عامة كلا بل هي أسئلة تخيرها بعناية وهو يعلم أنه لن يجيب عليها أحد منا. وبعد أن انتهت الحصة مباشرة تكالب عليه الطلاب يرجونه ويتوسلون إليه أن يسجل اسماءهم في مجموعات الدروس الخصوصية التي يدعو إليها بعد أن فشلوا في الإجابة على أي سؤال من أسئلته، وكان لا يتورع عن إجبار الطلاب على الدروس بالقوة والتهديد .

والعبد لله كان يكره الدروس الخصوصية بشدة وذلك ليس شطارة منه ولا فلاحا، وإنما لأنها كانت في ظنه تقيد الحرية وتعرقل الصرمحة وتسرق منه وقتا طويلا بلا جدوى، فما بالكم إذا أضفنا إلى ذلك ضعف المدرس في مادته. المهم أن مازينجر زاد في رذالته وكاد الطلاب يشقون ثيابهم من غلاسته وبطشه بهم. ومر شهر وشهران وراح يضع امتحانا شهريا وطلب منا أن نعد كراستنا ونجهزها ليصحهها ويضع عليها أعمال السنة، وطلب منا أيضا أن نعد أنفسنا للامتحان الشهري في الحصة نفسها التي سيصحح فيها. والعبد لله لم يكن يخصص كراسة لأي مادة من المواد على الإطلاق لأنه يؤمن أن العلم في الراس وليس في الكراس، ويؤمن أن المدرس الضعيف لا يستحق أن نصنع له كراسا ولا كشكولا، وكان يكتفي بأن يأتي من بيته بورقة بيضاء وقلم فقط ، وقد كان الكحيان أفضل بكثير من زملاء له يأتون بالعباءة والشباشب الزيكو والمسابح الخشبية الغليظة التي نراها عند العطارين - إي والله - وكان بعضهم لا ينفك عن مطواة يضعها في حقيبته أو سنجة طويلة يدسها خاصة إذا كان من المشاغبين الذين يديرون حروبا طاحنة مع فصول أخرى وقد كانت حروبهم طاحنة يتحدث بها الركبان ولم يكن يفضها إلا الشرطة التي اضطرت وقتها أن تصنع لها مقرا في غرفة مدير المدرسة لتقوم بتعذيب هؤلاء الطلاب المشاغبين فيها. المهم تعمد الكحيان ألا يلبي طلب هذا الأستاذ بالذات فلا يحضر له كشكولا ولا يجيب له عن سؤال.

وبالفعل بدأ مازينجر حصته الأولى بتصحيح الكراسات ورصد الدرجات، ونادى اسمي وسألني عن الكراسة فقلت: نسيتها فوبخني وسبني سبا مقذعا، وقال تأتي بها الحصة القادمة، وبعد أن صحح الكراسات كتب الامتحان على السبورة وكان امتحانا عسيرا جدا لم يجب عنه أي طالب من الطلاب سواء العباقرة الأفذاذ أو البله الهمل، والكحيان نسي في هذا اليوم أن يأتي بورقة فاقترض ورقة صغيرة من زميل له ثم قسم هذه الورقة على صغرها إلى شطرين فنقل الأسئلة في وجه من الورقة وعلى الوجه الآخر كتب اسمه وبياناته، وفي وقت تسليم الأوراق تسلم الأستاذ مازينجر ورقتي من أحد الطلاب فنظر فيها مليا ثم احمرت عيناه وتطاير منها الشرروانتصب شعر رأسه وانفرد جناحاه فأطاح بجميع الأوراق التي في يديه عاليا في الهواء، وجرى نحوي جريا وحشيا ثم أطبق على زمارة رقبتي وراح يصفعني ذات اليمين وذات الشمال ولعل قفاي نال حظا من صفعاته، حتى إنني شعرت بابيضاض المنظر أمامي ثم احمراره ثم رأيته مسودا كالليل البهيم، ثم وجدتني طريحا على الأرض، ولأنني صعيدي لم أسكت- وقلت النار ولا العار- فقمت لأهاجمه وقد شتمته بعض الشتائم من عينة : ياوحش.. يامقرف... ورحت أتعلق في رجله الضخمة لأتمكن منه لكن الطلاب بحمد الله قد أنقذوه مني .

ومنذ هذا اليوم أقسمت ألا أحضر له حصة وبررت فعلا بقسمي، وقررت في نهاية هذه السنة الثانية أن أمضي الاستمارة التي تعقب السنة الثانية لتكون انتسابا للأدبي لا للعلمي... وبعد أسابيع قابلني هذا المازينجر في طرقة من طرقات المدرسة وألان معي الحديث وقال لي: لا تزعل كنت أريد مصلحتك، ولابد أن تحضر الحصص، فوعدته ولكني لم أف بوعدي. وقد ترك فيَّ هذا الأستاذ أثرا غائرا إلى اليوم أتدرون ما هو ؟ إنه ضعف الذاكرة الرقمية فأنا أكره الأرقام بشدة وأنساها بشدة أنا إلى الآن لا أحفظ رقم التليفون المنزلي ولا أحفظ رقم الموبايل الخاص بي، لكن من المفارقات أنني استطعت أن أدخل كلية الهندسة، لكني لم أنس إلى اليوم أثر هذا الأستاذ المازينجر. لكن الحمد لله هو على كل حال أرحم من أساتذة اليوم الذين يقتلون أطفال المدارس ويكوون الأطفال الصغار بالنار في الحضانات أليس كذلك ؟.