انطلقت وكلي شوق إلى مكتبة الإسكندرية الجميلة الرائعة، وأنا في الحقيقة مغرم بهذه المكتبة ومعجب بالفكرالذي يديرها أشد الإعجاب: فكلها سعة ونظافة وجمال ودقة وانضباط وتعاون وهدوء... بل إن العاملين فيها والعاملات والموظفين والموظفات على قدرعال من الجمال واللباقة والثقافة والأدب، تبدو على وجوههم النضارة والترف والشبع، وهذا والله ما قد لاحظته على العمال الذين يعملون بدورات المياه هناك التي لا أحرم نفسي من دخولها كلما ذهبت، لاستمتع بنظافتها وبريقها اللامع، ولم أشك ألبتة في أن هؤلاء العمال متعلمون وحاصلون على مؤهلات عالية، ومن هنا كان من الطبيعي ألا تسمع عن سرقات للكتب القيمة أوالمخطوطات النادرة وبيعها لتجار الروبابيكيا وباعة الكتب بثمن بخس دراهم معدودة كما يحدث في مكتباتنا العريقة؛ لذا كنت أرى أن القاهرة أولى بهذه المكتبة من الإسكندرية،وليس ذلك جشعا أو حسدا أو تعصبا مني ؛وإنما ذلك لأن الباحثين بها أكثر عددا، فضلا عن أن القاهرة بها أكبر عدد من الجامعات كما هو معروف؛ لكن صديقي الإسكندراني أقنعني بقوة منطقه وشراسة أدلته اللاذعة بأن مكان المكتبة هنا أفضل وأشرف وآمن؛ لأنها لو أنشئت في القاهرة وأديرت بالفكر المكتباتي القاهري البالي لتحولت – واللفظ له- إلى مشخخة أو مخرأة على الطريق العام !! .
دلفت إلى المكتبة ورحت أبحث عن بعض الكتب التي أحتاجها بشدة في بحثي؛ لأصور بعض فصولها، فوجدت معظم الكتب غير موجودة على الأرفف، وذلك ليس لأنها سرقت أو نهبت – كلا وحاشا- ولكن لأنهم يصورونها فيما يعرف بالتصوير الديجيتال، من أجل رفعها على المكتبة الرقمية، وما يتم سحبه من الكتب إلى هناك لا يعود إلى مكانه على الأرفف إلا بعد حين، ومشروع المكتبة الرقمية – والحق يقال- مشروع عظيم ومفيد وهو مما يحسب لهذه المكتبة الرائعة، وهذا في الحقيقة ما هوَّن علي الغصَّة التي وجدتها في حلقي. وقد عثرت على كتيبين صغيرين أردت تصويرهما، ولمن لا يعرف: لا يتم هناك تصوير الكتاب كاملا بحجة الحفاظ على حقوق المؤلفين- وهذه عدوى أصيبت بها المكتبة من دار الكتب المصرية وسائر المكتبات الكلاسيكية- ولكن من رحمة الله أن مكتبة الإسكندرية بها طابقان للتصوير، فما عليك إلا أن تصور جزءا هنا وجزءا هناك ليجتمع لك تصوير الكتاب كله، والموظفون هناك يعلمون بذلك بل يرشدون الباحثين إلى هذه الطريقة الالتفافية الدورانية، لأن القانون الذي فرض ذلك قانون غبي غشيم عبيط بشهادة الكافة، وقد قام صديقي بتصوير جزأين من الكتاب وبقي جزء ثالث، فأخذتُ الكتاب لأصورالباقي بدلا منه حتى لا يفطن الموظفون إلى أن هذا الكتاب صُوِّرعندهم من قبل، ولكني فطنت من الوهلة الأولى إلى أن هذا الكتاب لن يصور؛ لأن الموظفين الذين رأيتهم هذه المرة مختلفون عمن كنت أراهم في كل مرة،إذ يبدو عليهم أثر الجوع والكدح وشيْ من الفاقة وأشياء أخرى، أخذوا الكتاب وجلست طويلا في انتظاره، ولما ذهبت للاستفسار عنه قالوا لي : لن نصور هذا الكتاب. قلت : لمه؟ قالوا : لأنه صُور من قبل !! قلت: من أين علمتم؟ .. والله ما جئتكم به من قبل ولا صورت بنفسي شيئا منه – وأنا صادق والله كما تعلمون- . فقالوا: لقد جاء الكتاب هنا من قبل . قلت لهم : جاء جاء.. وما ذنبي أنا ؟ إن كان غيري صوره، فما المشكلة في أن أصوره أنا أيضا ؟. هل هناك قانون في المكتبة يقضي بأن الكتاب يُصور مرة واحدة فقط لزبون واحد فقط في اليوم؟ ، فقالوا كذبا وافتراء: نعم، ولما أخبرتهم أني باحث معيد لا غرض لي في تصوير الكتاب إلا خدمة بحثي، وأني قد أتيت من القاهرة خصيصا من أجل هذا الكتاب، فكيف أعود بلا شيء؟ فقالوا: اذهب وصوره في الطابق الأعلى. قلت إذن أنتم مقرون بعدم جدوى هذا القانون، وتلتفون حوله فلم لا تصورون لي وتكسبون ثوابا عظيما؟ لكنْ أخبرُونِي أليس من الممكن أن أصور نصف الكتاب اليوم بهذه الطريقة؟ قالوا: بلى قلت : أيمكنني أن آتي غدا وأصور باقيه قالوا : نعم. قلت أليس هذا ما يفعله جميع الباحثين؟ قالوا: بلى قلت : إذن كيف سيحمي هذا القانون الأخرق الأحمق الأرعن الأهبل الأهطل حقوق المؤلفين المزعومة؟ ألسنا نخادع أنفسنا ونهدر أوقاتنا وندور في حلقة مفرغة؟.. ولم أنتظر جوابهم وانصرفت غاضبا، ولكن صديقي الهمام برطم ببضع كلمات وقال لي: أنت عبيط جدا.. قلت : لمه ؟ قال : كان يمكنك أن تصر على التصوير ولو أصروا تطلب منهم مقابلة مدير المكتبة- وهذا يرعبهم- وتقول له: إنهم يمتنعون عن التصوير لي وأنا قادم من القاهرة،وذلك بحجة أني صورت هذا الكتاب من قبل، وأنا لم أصوره وليأتوا بدليلهم على ما قالوا إن كانوا صادقين. قلت: يا لها من فكرة خبيثة مارقة، سأفعلها في المرة القادمة إن شاء الله !!!
وفي آخر النهار قررت العودة إلى القاهرة بمحصولي الضئيل من المكتبتين، وأصررت على ألا أركب الميكروباصات اللعينة، ولجأت إلى الأتوبيس المكيف، فإن الأتوبيس كما زعم غير واحد أكثر راحة، وأقل تكلفة –إذ سيوفر لي من ثلاثة جنيهات إلى خمس- ووقفت على شباك التذاكر نصف ساعة أنا وصديقي لنحجز، وكان دون الحجز ضرب النعال والقباقيب، وقد اشتبك صديقي فجأة مع رجل ثرثارأرعن أراد أن يزيحه بالقوة عن الشباك، وقد تم الحجز بحمد الله وصعدت إلى الأتوبيس المكيف مودعا صديقي، وانطلق الأتوبيس بي، وبعد عشر دقائق من سيره توقف تكييفه تماما، وليس هناك منفذ للهواء فهبط السائق ومعاونه وفتحوا الباب الخلفي ليُدخل لنا الهواء، فقامت انتفاضة كبيرة بالأتوبيس، وانطلقت ألفاظ نابية أخذت بتلابيب السائق وامتدت أكف، وأرجل، وسمعنا شخرا وبصقا وضراطا . وقال الركاب له: عد بنا إلى المحطة فورا، فقال مهدئا لهم : هذا لا يصح يا جماعة ستتأخرون كثيرا، كما أن هذه التذكرة لا ترد، ووعدهم بأنه سيتوقف في جراج كفر الدوار ليصلح التكييف، وتوقف الأتوبيس هناك حوالي ثلاثة أرباع الساعة، وتم إصلاحه في دقيقتين، ثم انطلقنا ووصلنا بحمد الله إلى القاهرة بعد أربع ساعات ونصف من انطلاقنا. يتبع.